Posts Tagged ‘الوعر’

حمص- الوعرفي مدينةٍ كحمص يصعب على الأطفال في الظرف الراهن عيش بهجة الطفولة، أو حتّى تذكّرها دون خلفيّة مشتعلة بالخوف ومخلّفات الاشتباكات، التي طبعت يوميّات السكّان بألوان من الإذلال والعوز. ولعلّ الظلم الأكبر الذي لحق بالأطفال كان حرمان الكثير منهم حَقَّهم في التعليم وتوقّفهم عن ارتياد المدارس.

وعن هذا تتحدث منى، وهي ربّة منزل، «تعرّض ابني العام الماضي لإصابة بالغة نتيجة قذيفة استهدفت حيَّ الوعر أثّرت على مقدرته على الحركة لفترة طويلة، بالإضافة لتخلّفه عن المدرسة أثناء عام نزحنا خلاله من حُمص القديمة إلى هنا، كان من المفترض أنْ يكون في الصف الثالث لكنّه إلى الآن لا يستطيع القراءة».

وحال ذلك الطفل لا يختلف عن حال الكثيرين من أقرانه، فقد استهدفت القذائف العام الماضي الكثير من المدارس ما جعل قسمًا كبيرًا من العائلات تقرّر تغييب أطفالها عن مدارسهم لفترات طويلة، كما كان لاستهداف إحدى المدارس في حيّ عكرمة مع بداية العام الدراسي بسيّارة مفخّخة أدّتْ لمقتل 41 طفلًا، دور في جعل الكثيرين يتخوفون من تكرار ذلك في مدارس أخرى.

إضافة إلى الحرمان من المدارس، فقد تراجعت سويّة التعليم بالنسبة لمن يرتادها، مع صعوبة الدراسة في ظلّ فترات انقطاع طويلة للتيار الكهربائيّ، أو اكتظاظ الشُعَبُ الدراسيّة ودمج المدارس في نفس الأبنية بأوقات دوام مختلفة، ما أدى إلى تقليص مدّة الحصّة الدراسيّة، واختصار دروس النشاطات الترفيهيّة من رسم وموسيقا ورياضة في العامين السابقين، وإنْ تحسّن ذلك بنسب بسيطة في العام الدراسيّ الحاليّ. وبحسب إحصاءات مديريّة التربية في حمص فقد أحصت خروج حوالي 450 مدرسة من الخدمة بسبب الدمار، وهناك 46، مدرسة أصبحت مراكز للإيواء وهذا العام تم صيانة وتأهيل 18 مدرسة كخطوة إسعافيّة.

جابر، أب لطالبة في إحدى المدارس الابتدائيّة، يقول لعنب بلدي «بالرغم من كلّ ما حدث مازال النظام يستخدم المدارس كمنصّة لتلقين مبادئ حزب البعث وترديد شعاراته رغم إلغاء المادة الثامنة من الدستور.. عندما بدأت الثورة كنت أحلم ألا تردّد طفلتي تلك الشعارات التي ردّدناها كالببغاوات، أنْ تنشأ في بيئة فكريّة مختلفة وقد كان عمرها 3 سنوات تعلّمت الهتاف الثوري قبل أغاني الأطفال».

لم يقتصر الإحباط على الأهل، بل كان للأطفال رأيهم، فسامر، التلميذ في الصف الخامس الابتدائي، يقول «منذ أيّام طلبوا منّا الاصطفاف وشراء أوشحة رسم عليها شعار (منحبك) ثم قادونا إلى مسرح دار الثقافة، هنالك جُمِعَ الكثير من طلاب المدارس وكان هناك مسؤولين (مثل المحافظ وأمين فرع الحزب ورئيس لجنة المصالحة الوطنية ورئيس منظمة الطلائع وأعضاء قيادة فرع الحزب بحمص وأعضاء قيادة منظمة الطلائع وأعضاء مجلس الشعب ومدراء الدوائر والمؤسسات بالمحافظة)، قد حفظت تعدادهم لكثرة ما ألقوا علينا من خطب، كنّا نصفّق، فقط نصفّق عند انتهاء كل كلمة لكنّني عند عودتي إلى المنزل وقبل اقترابي من الحي تخلصت من الفولار وركضت».

ومع الاستقرار النسبيّ لبعض مناطق مدينة حُمص يلحظ الأهالي عودة نهج التربيّة الطلائعيّة لحزب البعث، وتتحدث يسرى، ربّة منزل، عن ذلك «أصحو كلّ يوم على أصوات الطلبة يتدرّبون على حفل قادم لمناسبة الحركة التصحيحية.. أسمعها من ذات النافذة التي كنت أرى فيها كيف قُتل المتظاهرون ولوحقوا. مازالت أصواتهم في أذني تختلط اليوم مع أناشيد امتداح السلطة، إنّه لأمر مؤسف.. جدًا مؤسف»

وبين التربيّة البعثيّة الطليعيّة ونهج التشبيح، وظلاميّة التطرّف والحرمان من التعلّم، وبين واقع مثقل بالعنف بكلّ أشكاله، يمكث الأطفال في هذا الزمن، ممّا يجعل الحمل أثقل على من يسعى لغدٍ أفضل.

كُتبت كتقرير صحفي لجريدة عنب بلدي العدد 142.

الوعريتصدّر اسم الوعر الأخبار الآتية من حمص، وهو حيّ كبير يتألّف من قطاعين (قديم وجديد) ويقع غرب المدينة وتفصله عنها منطقة بساتين ونهر العاصي ويعدّ آخر معقل لقوّات المعارضة داخل المدينة.

يمارس النظام منذ أكثر من عام ونصف سياسة الحصار المطبق على الحيّ، ويستهدف مناطقه بالقصف الصاروخي تارةً وبالرصاص والقنص تارةً أخرى. إضافة إلى حرمان المدنيين من دخول السلع والمواد الغذائية والأدوية والوقود، ومنعهم من مغادرة الحيّ باستثناء الموظفين الحكوميّين والطلاب.

وعن تفاصيل التضييق على المدنيين يتحدث أحمد، وهو موظف حكومي، “أتمكن من الخروج يوميًّا من الحيّ لكوني موظفًا في إحدى مؤسّسات الدولة، لكنّنا نتعرّض لتفتيش دقيق بشكل يوميّ عند الخروج والدخول من الحيّ، ولا يسمح لأحد بإدخال أيّ شيء مهما صغر حجمه”.

أما فاتن، وهي طالبة جامعية، فتقول “يشكّل العبور من وإلى الحي كابوسًا يوميًّا بالنسبة لي وللكثيرين، ولا أجرؤ على إدخال أيّ شيء رغم الحاجة الماسّة للغذاء مع ندرته وارتفاع سعره بشكل لا يعقل”، وتروي فاتن بعض حوادث “الإذلال” التي شهدتها على حواجز الحي “رجل متقدّم في السّن يحمل كيسًا صغيرًا من الفاكهة، استوقفه أحد العناصر وقام بدعس الفاكهة تحت قدميه ثم صفعه أمام الجميع مما أدى لسقوطه أرضًا، وآخر كان في نفس الحافلة أخفى كيسًا صغيرًا من القهوة في بطانة ردائه وعند اكتشاف الأمر قام العناصر بنثر القهوة على رأسه، وبعد ضربه تم إجباره على كنس ذرات البن من الأرض بلسانه”.

يصل دويّ القصف والرصاص إلى بقيّة أحياء حُمص دون أنْ يطبع آثارًا كبيرة على حياتهم اليوميّة، التي اختزلتها صعوبة العيش والاعتياد إلى أنْ باتت مقتصرة على الركض وراء تلبية الحاجات اليوميّة من طعام وسكن وتعليم وحركة تجاريّة طفيفة، لذا باتت العديد من العائلات متفرّقة بين الوعر والأحياء الأخرى، وعن ذلك يقول مهنّد “ذهبتْ زوجتي وأطفالي للعيش في حيّ آخر لصعوبة وخطر العيش في الوعر، فمهما كان التضييق عليهم في الأحياء الخاضعة للنظام يبقى ذلك أرحم من نوبات الهلع التي تجتاح نفوس أطفالي عند سقوط القذائف والصواريخ، وركضهم اليوميّ من شارع لآخر خفيةً عن عيون القناصين”، أما هو فقد اضطر للبقاء في الحي نظرًا لبلوغ ابنه الأكبر سن الخدمة الإلزاميّة العسكريّة “أيّ محاولة لخروج ابني من الحيّ ستعرضه لخطر يفوق خطر الصواريخ والقذائف”.

وحال ذلك الشاب (ابن مهند) يشابه حال المئات ممن لا يستطيعون مغادرة الحي بهدنة أو بسواها بعد أن أصبح الوعر ملاذهم الأخير من قوائم المطلوبين الموزّعة على حواجز البلاد.

ليس ذلك فقط ما جعل من الوعر ملاذًا للسكان، فمنذ 2012 لجأ عشرات الآلاف من المهجرين من منازلهم إليه، ما يجعل خروجهم منه يعرضهم للتشرّد مجددًا بصورة أقسى، فلا مأوى جديد لهم بعد اكتظاظ ما تبقى من المناطق المأهولة في المدينة، وغياب أيّ خطة لاستيعابهم، واستغلال أصحاب المنازل في بقيّة الأحياء لتصل إيجاراتها الشهريّة لأرقام عالية.

وعن ذلك تتحدث نور، وهي ربّة أسرة من سكان الحي المحاصر، “خرجنا من الوعر الذي لجأنا إليه بعد الخروج من حُمص القديمة، لأجد نفسي مع عائلتي دون مأوى، وبسبب دمار محل زوجي ومع غلاء المعيشة وارتفاع أسعار السكن اضطررت لبيع مصاغي الذي ادخرته طوال عمري”.

وكانت إشاعات عديدة سرت في وقت سابق عن اقتراب الوصول لتهدئة تمهّد لإدخال مساعدات ومواد أساسيّة، بالإضافة لمنح الطرفين الفرصة للتفاوض على اتفاق يسمح لمقاتلي المعارضة مغادرة المنطقة من دون التعرّض للهجوم أو الاعتقال، ولم يُكتَبْ لكل ذلك النجاح، أمّا اليوم فيتخوّف الناس من اجتياح للحيّ و”إبادته” في ظلّ تزايد وتيرة القصف، في حملة ممنهجة وفي ظلّ تغييب أخبار الحي عن العالم.

هكذا بين مطرقة قصف النظام وتهديده بالاجتياح، وسندان أخطاء مقاتلي المعارضة في الحيّ، يمكث المدنيون في الوعر بانتظار بارقة رحمة تعيد إليهم طمأنينة العيش دون حصار واحتكار وصواريخ، ودون تشرّد وتهجير وذلّ واعتقال.

كُتبَ كتقرير صحفي للعدد 141 من جريدة عنب بلدي.