أرشيف لـنوفمبر, 2015

أحياء حمص خاوية وأخرى عطشى للحياةثمّة تنافض مخيف ومربك يشعر به من يمر بحمص لأول مرة بعد 2011. من الصعب استيعاب معادلة الحياة المجاورة للخراب، وأنّ أمتارًا قليلة تفصل بين عوالم متطرفة في اختلافها.

المساحة الأكبر من المدينة مغلقة ومهدّمة إثر قصفٍ دامَ لما يزيد عن ثلاث سنوات، وبضعة أحياء صغيرة مأهولة ومكتظّة بمنْ تَبقّى من أهل المدينة تفصلهم منطقة من البساتين عن حي الوعر، أكبر أحياء المدينة وأحدثها، والمحاصر حتى الآن. وغير بعيد عن تلك المناطق، نحو جنوب المدينة، تقع المناطق الزراعيّة التي تم الاستيلاء عليها وإعمارها دون تنظيم منذ السبعينيات، أقامت فيها الكتلة السكانيّة التي أتت من القرى المحيطة بحمص والقرى الساحليّة، إثرَ استلامهم معظمَ الوظائف الحكوميّة والعسكريّة، وباتت تعرف اليوم بأنّها القسم المؤيد للنظام في المدينة، أو ما يسمى بضفة الطائفة الأخرى من المدينة. لا تواصل بين أهل الضفتين.. قطيعة كبرى حدثت منذ اندلاع ثورة 2011 .

منطقة الوعر، بقسميها القديم والجديد، يعاني من حصار خانق على الخدمات والغذاء والدواء والوقود، ولا يسمح لأحد بمغادرته عدا الطلاب والموظفين شريطة تقديم وثائق تثبت عملهم على المعبر بشكل يوميّ.

تقول سناء، وهي موظفة حكومية من سكان الوعر، ”حين أعبر إلى خارج الحي، أشعر أنني أصبحت في بلاد أخرى، على الأقل أستطيع شراء الألبسة والخضار.. أستطيع التجوّل مع خوف أقل من القذائف والقنص، لا أمتلك من المال ما يكفي لاستئجار منزل خارج الوعر، خصوصًا أن زوجي ليس موظفًا ولا يستطيع مغادرة الحي”. اعتادت سناء الخروج بسرعة بعد انتهاء دوامها لشراء بضع حبات من الخضار تحشوهم في جيوب ملابسها خفية عن عيون عناصر حاجز المعبر، لكن في أحيان كثيرة يتم اكتشاف أمرها، “يطلبون مني رميهم على الأرض”.

ليس الحصار وحده ما يشظّي المدينة. منى، الطالبة في كلية الهندسة، تقول إنها أتت من دير الزور لاستكمال الدراسة في جامعة حمص، إلا أنها صدمت بواقع المدينة وكأنها ثلاثة مدن لا ترابط بينها، “حاولت البحث عن سكن قريب من الجامعة، ففوجئت بالسكان ينصحونني بتجنب مناطق معينة لكوني محجبة، حيث من  الصعوبة أن تمشي المحجّبات بسلام بين قاطنيها”.

لا تقتصر دهشة من يزور حمص على عمق الفجوة الطائفية فيها، بل تمتدّ إلى كل مظاهر الخراب والوحشة والازدحام فيها. محمد، شاب مقيم في دمشق، لم يتمكن من زيارة بيت جده في حمص منذ خمس سنوات، بسبب المخاطر التي يسمع عنها، “في النهاية ذهبت، مررت بشارع الستين وقرب شارع نزار قباني وشوارع الحميدية شعرت وكأنني أتجول في مدينة أشباح، ولازمني انقباض مؤلم جراء مشاهد الدمار والخراب، وفي نفس اليوم تمت دعوتي إلى حفلة موسيقية على مسرح المدينة، جلس الناس على الدرج لشدّة الازدحام.. شاهدت حشدًا ضخمًا من كلّ الأطياف والأعمار، يحار المرء أهي مدينة أشباح أم مدينة عطشى للحياة؟”.

تأقلم أهل حمص ولم يناقضوا أنفسهم، كما تؤكّد سالي، “يظنون أننا تعافينا ونعيش برفاهية وكأن شيئًا لم يكن، بمجرد رؤيتهم لافتتاح محل تجاري أو مطعم أو صالة أفراح صغيرة، وكأنّنا نخون التضحيات.. على الرغم من كلّ شيء لازلنا أحياء وسنكمل الحياة ما استطعنا، من لم يعش السنوات الماضية هنا يسهل عليه الاتهام والمزاودة”.

سواء تعايش أهل حمص مع ظروفهم الصعبة أم ناقضوا تمردهم وثورتهم، فالجميع يشعر بتغير طريقة تفكير الناس، جنون الأسعار وانهيار العملة وعدم القدرة على التفكير في الاستثمار، في ظل واقع مشتعل ومستقبل مبهم غيّر الكثير من المفاهيم، حيث تسود الثقافة الاستهلاكية ويضعف التواصل العائلي وسط تشتت الأفراد بين بلدان الهجرة واللجوء، ليصبح الإنترنت الشريان الوحيد الذي يربطهم مع الحياة، بين رغبة في الهروب من الواقع ورغبة في البقاء على تواصل مع من أبعدته الظروف والمسافات.

“لقد تغيرت الثقافة الاستهلاكية للناس بالتأكيد، في السابق كان الزبون يفكر ويتردد قبل شراء جهاز تعادل قيمته نصف دخله الشهري.. الآن بات يشتري بكل ما يمتلك حتى بعد أشهر من الادخار”، يقول جلال، الذي يملك محلًا لبيع الموبايلات في المدينة.

يعتبر الكثيرون أن ما تعيشه حمص “حال مؤقتة” إلى أجل غير مسمى، إلا أنّ الكل يجمع أنّ ما تشهده عاصمة الثورة سيحفر عميقًا في نفوس أهلها، الآن وحتى الأجيال اللاحقة، فما من أرض أو مدينة لم تتبادل المواجع والملامح مع من يسكنها عبر السنين.

كُتبَتْ في العدد 194 من جريدة عنب بلدي.

بعد يوم طويل نقضيه أمام الشاشات المضيئة (حاسوب، موبايل، جهاز لوحي..) نعرّض فيها عيوننا لضوء مرهق ومتعب لخلايانا العصبية وبالتالي ذهننا، ربما يلاحظ من يقرأ ويكتب كثيرًا أو يدرس أو يبرمج أو يلعب أو يشاهد الفيديوهات أمام هذه الشاشات المضيئة أنّ يومه يكون مرهق جدًا، وأن نظام نومه يضطرب بشدّة، وذهنه وعيونه تتعب كثيرًا أو حتى تؤلمه.

هذه الأمور كلّها حصلت مع كاتب هذه المقالة، وأصبح هذا الأمر الخطير يحتاج لبحث فيه، والنتيجة كانت جيّدة جدًا، فلكل مشكلة حل، شكرًا للعلم دومًا.

المشكلة هي أنّ هذه الشاشات كـ (LCD, LED, IPS …) ومهما كان نوعها، فهي تصدر ضوء مجال لونه أزرق، وهو المجال الأكثر وجودًا في النهار، وبالتالي فإنّ عقلنا عندما يتقلى هذا الضوء فهو يعتبر أنّنا في الصباح أو الظهيرة فينشّط نفسه ليعمل بقوّة في هذا اليوم، فيزداد ضخ الدم للدماغ وتتنشّط العضلات والخلايا العصبيّة.

وعندما نقضي ليلنا أمام الشاشات المضيئة نقرأ أو ندرس أو ندردش أو نتصفّح الشبكات الاجتماعيّة، فنحن في الحقيقة نخبر دماغنا أنّنا في النهار لتلقيه هذا النوع من الضوء، فنصاب كما نرى اليوم، إضرابًا في النوم واختلالًا في نظامه، فلا نطيق الاستيقاظ صباحًا فنقوم متكاسلين مرهقين وكأنّنا كنّا نحارب في نومنا !

تأثير مجالات الألوان على الذهن والبدن لوحظ من وقتٍ طويل، بدايةً لوحظ تأثير ذلك على هجرة الطيور، وتأثّر ساعاتها البيوليوجية بمجال الألوان، وهذه الأبحاث تطوّرت واستمرّت على الإنسان بعد اكتشاف مستقبل عصبيّ ضوئي اسمه Melanopsin ، كل الخلايا العصبيّة الموجودة في الشبكيّة كانت معروفة، ولكنْ منذ 15 عامًا اكتشفت هذه الخلايا الجديدة والتي لوحظِتْ حساسيّتها لمجال اللون الأزرق بأطوال موجات 460-480nm، ودُرِسَ بعد ذلك تأثيرها بدقّة على النوم.

لتعرف ما هو اللون أصلًا؟ وما تأثير مجال اللون الأزرق على الإنسان؟ حمّل هذا البحث من هنا (بالانكليزية)

المفروض أنّ يكون نومنا ليلًا، فيكون النوم هو وقت الراحة للجسم والذهن ووقت ترمم فيه كل خلايانا وأهمّها العصبيّة ذاتها، وتترسّخ الذاكرة، وتستريح العضلات؛ فعندما نصحى صباحًا نكون في أفضل حالاتنا الذهنيّة والبدنيّة.

في الحقيقة هذا التعرّض المستمر والطويل لهذه الشاشات، لا يضرّ بالنوم الذي يعتبر أهم عملية حيويّة للجسم، ولكنّه يؤثر على جسم الإنسان بأشياء كثيرةً جدًا.

ما الحل الذي جئناكم به ؟

هناك بعض التطبيقات التي بُنيتْ على هذا الأساس العلمي، وعملها يكون بمنع الشاشات بإصدار الضوء من المجال الأزرق في الليل، وتصدر بدلًا منها ضوءًا في المجال الأحمر.

أفضل هذه التطبيقات على الإطلاق هو f.lux وهو مبني على بحث علميّ دقيق يمكنكم الإطلاق عليه من هنا.

في هذه الصورة نلاحظ مجال الألوان الصادر عن Macbook Air 2011

flux_beforeوفي هذه الصورة مجال الألوان عن ذات الجهاز بعد استخدام هذا التطبيق.

flux_after

وهو يعمل على كل الأنظمة (Windows, Mac, iOS and Linux)، أنصحكم مباشرةً بتجريبه، ما عليكم سوى أن تعطوه إحداثيات مكانكم (جوجل يعرفها إنْ سألتوه عنها)، أو تكتبوا اسم مدينتكم وهو سيُبَرمَج على أوقاتِ الشروق والغروب في بناءً على موقعكم، وعندما يحين وقت غروب الشمس، سيمنع الأشعة الزرقاء من أذيّة عيونكم.

وهناك تطبيق لأندرويد اسمه Twilight يعمل نفس العمل.

بعد التجربة، كل يمكن أن ننصح به، هو أن تجربوا وتحكموا بأنفسكم.

كُتبتْ هذه المقالة لعنب بلدي أون لاين.

أطفال حمص

على مر السنوات الفائتة في حمص تَربَّى جيل من صغار الأطفال على أصداء الرصاص ودويّ مصطلحات الحصار والحواجز والقذائف والاعتقالات والقنص والدمار والشبيحة؛ كلمات قليلة بوقعٍ كبير باتت تشكل ذاكرةً لطفولة جيلٍ كامل.

الهدوء النسبيّ الذي تعيشه ما تبقّى من الأحياء المأهولة في حُمص لم يُغيّر من حقيقة الآثار النفسيّة التي خلّفتها الفترات المشتعلة السابقة، هذا ما تؤكده سهام، وهي معلّمة في إحدى المدارس الابتدائيّة، ”أمارس التدريس منذ 20 عامًا، لذا أستطيع القول بأنّ جيلَ الأطفال باتَ يفتقد للتركيز والانتباه بنسبة كبيرة، فمظاهر التوتر والانطواء وصعوبات النطق والكلام وقضم الأظافر والتبوّل اللاإراديّ والتنمّر والشجار العنيف بين الأطفال بات ملحوظًا بشكل أكبر”.

وتبدو تلك المظاهر طبيعيّةً قياسًا لما تقاسيه طفولتهم المسلوبة وسط الظروف الصعبة، فَوفق استطلاع بسيط يستطيع أيّ شخص أن يلاحظ الحصار الذي يُمارَس على حقوق الأطفال من اللعب والحركة والأماكن المفتوحة والمساحات الخاصة، فلا يكاد يخلو بيت في حمص من اجتماع أكثر من عائلة في بيت واحد، بعد تهدّم النسبة الأكبر من أحياء المدينة وتهجير أهلها بشكل قسريّ، الأمر الذي لم يسمح لهم بالعودة حتّى الآن، سوى في استثناءات محدودة ضمن منطقة حمص القديمة.

نورة، متطوّعة في إحدى فرق الدعم النفسي التي تجوب المناطق المختلفة بحمص. تقول الشابة “ثمّة حاجة كبيرة للوصول إلى كلّ بيت وكلّ طفل لمساعدتهم على تجاوز هذه الظروف العصيبة، معظم الأطفال يعيشون وكأنّهم بمعزل عن الحياة بأكملها، لا يعرفون شيئًا عن الطبيعة والحيوانات وكلّ ما يمكن للإنسان أنْ يستمتع باكتشافه.. حين طلبنا منهم رسم الغابة أو البحر كانت النتيجة بأن أحدًا لم يرسم، الصور التي تمرّ عليهم في التلفاز لم تساعدهم على تصوّر الأشكال، حتّى حكايات الأطفال تبدو كقصص الخيال العلميّ بالنسبة لهم، كلّ من لم يتجاوز العشر سنوات لا يحمل في ذاكرته سوى ما يرافق قبح الحرب وغَصّة من حوله”.

ولعلّ من المعاناة التي يواجهها أطفال سوريا عمومًا عدم قدرتهم على استيعاب ما يجري، وعدم القدرة على التعبير عن الكثير من المشاعر الدفينة التي يولّدها الخوف والقلق، تلك المشاعر التي تبقى آثارها وتظهر بأشكال مختلفة في مراحل أعمارهم المختلفة.

ويعاني الأهل مع هذه المشكلة مصاعب كثيرة إزاء الأسئلة التي تدور في أذهان أطفالهم، وإزاء مسؤولياتهم تجاه طمأنتهم وتحويل فكرهم عن الحدث الراهن، بدمويته وبؤسه، وما يترتّب عليه من معاناة.

إلا أنّ الثورة وما تلاها من حرب خلفت تصدّعًا متفاوتًا في بنية الأسرة، فالطفل الذي نجا والده من الاعتقال أو الخطف أو الموت لم يَنجُ من فقدانه مؤقتًا أو مؤبدًا عبر الهجرة، التي باتت العنوان الأبرز لهذه المرحلة بين من يخاف سَوْقه للخدمة العسكرية كفرد احتياط، حتى بعد مرور سنوات طويلة على أدائها، وبين من لم يعد قادرًا على تدبر أمر أسرته في ظل ظروف لم تعد تساعده على إعالتهم، فبات الكثير من الأطفال يعيشون برفقة أمهاتهم ريثما يتمكن الأب بعد إجراءات طويلة ومخاطر كبيرة من لم شملهم، إلّا أنّ ذلك يبدو بالأمر الهين قياسًا بما تقوم به أعداد لا بأس بها من الأسر، إذ باتت ترسل الطفل عبر طرق التهريب الخطرة نحو أوروبا وحده، دون أحد من أسرته، بالاتفاق مع مجموعات المهاجرين وشبكات المهربين بغية وصوله لدول اللجوء، التي تساعد قوانينها على أن يقوم الطفل بلم شمل أسرته بشكل أسرع وأضمن، بعد ادعاء من معه أنّهم وجدوه ضائعًا عن أهله في طريقهم.

مازن، شاب لاجئ في السويد، يخبرنا عن جاره الصغير البالغ من العمر 11 عامًا، والذي رافقهم في طريق خطر من حمص إلى تركيا وعبر البحر إلى السويد، في مسير مضن وظروف صعبة، ”لا أعرف كيف يُلقي الأهل طفلهم وحده في هذا الطريق، حتّى لو كان هنالك من يعرفونه ضمن مجموعة المهاجرين.. في أيّ لحظة كان ليترك وحده إن لم يستطع إكمال المشي وسط الغابات، حملته لساعات طويلة على ظهري، ظروف عائلته صعبة لكنّني أشكّ أنّه سيسامحهم يومًا على إلقائه في تلك المغامرة”.

لم يقتصرْ استغلال الأطفال على المقامرة بهم فوق خرائط العالم، بل إنّ القاطن في حُمص يلاحظ ازدياد نسبة عمالة الأطفال نتيجة ظروف تزجّ بهم في سوق العمل بشكلّ مبكر. عمر، طفل في الثالثة عشر من عمره، ترك مدرسته منذ عام، يقول إنه يتمنى لو أنه أكمل دراسته، “لكنّني المعيل الوحيد لوالدتي وأختيّ الصغيرتين.. أخي ترك البلاد نحو تركيا بعد استدعائه للخدمة العسكرية وبالكاد يستطيع تأمين قوت يومه، وأبي توفي إثر قذيفة سقطت فوق بسطة الخضار التي يبيعها. أعمل الآن في ورشة لتصليح السيارات، وأتعرّض للكثير من التوبيخ والضرب، يقولون لي ذلك شيء طبيعي في هذه المهنة، لكنّني لم أعتد عليه بعد”.

لسان حال أهل حُمص يقول “كنّا نودّ أنْ ننشئ الأجيال الصغيرة على الكرامة والحريّة، لكنّنا خذلنا إلى الحد الذي جعل الأطفال عوضًا عن ذلك يتشرّبون ثقافة المعونة والأكياس الممهورة بختم الأمم المتحدة، في مكان كلّ شيء فيه ممهور بأختام الأمم المتحدة من أكياس الغذاء والمؤونة إلى الشمسيّات التي تظلل عناصر حواجز الجيش”.

التحديّ الأبرز يبقى في العمل ومعاودة الأمل، كي يتمكن الأطفال من تجاوز مشاهد الموت المختزنة في أذهانهم، فكلنا يعلم أنّ الآثار النفسيّة لما جرى لن تنتهِ بمجرد عبور مرحلة الطفولة، بل يشكل كلّ ذلك قيمًا ورؤى ونظرة كاملة للطفل تجاه الحياة على مرّ عمره، دون أنْ ننسى أنّ باستطاعة الورود أنْ تنبت في أشدِّ الصحارى جفافًا وأكثر الأراضي تشققًا، بانتظار أمطار تحمل إرهاصات انتصار.

كُتبَ هذا التقرير لعنب بلدي في العدد 193